اغتيال الحقيقة- استهداف الصحفيين في غزة وكتم الشهادة.

منذ اللحظات الأولى لاندلاع العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة، تجلى بوضوح أن الصراع لا يقتصر على الميدان العسكري فحسب، بل هو حرب ضروس على الوعي، وعلى الرواية، وعلى جوهر الحقيقة. لم يكتفِ الاحتلال بوحشيته المتمثلة في القصف العشوائي والتجويع الممنهج والتدمير الشامل، بل سعى بكل ما يملك من أدوات قمعية إلى إخفاء الصورة الحقيقية ومنع وصول الكلمة الصادقة إلى العالم أجمع، من خلال التعتيم الإعلامي.
أحكموا إغلاق معابر القطاع في وجه وسائل الإعلام العالمية، وفرضوا حصارا مشددا ومزدوجا: حصارا خانقا على الإنسان وحصارا أشد على تدفق المعلومة. فالمراسلون الأجانب ممنوعون منعا باتا من الدخول، والمراسلون المحليون الشجعان يعيشون تحت وطأة القصف المتواصل، بلا أدنى حماية أو ضمانات، بل أصبحوا مستهدفين بشكل مباشر ومتعمد لإسكات صوت الحقيقة.
لقد أثبت الصحفيون الفلسطينيون الأبطال في غزة أنهم خط الدفاع الأول وصمام الأمان في معركة كشف الحقيقة للعالم أجمع. هم وحدهم الذين يوثقون الجرائم الفظيعة، بالصوت والصورة الحية والكلمة الصادقة، في مواجهة آلة عسكرية غاشمة مدججة بأحدث الأسلحة وقادرة على التضليل الإعلامي الممنهج.
لكن الاحتلال الغاصب يدرك تمام الإدراك خطورة هؤلاء الجنود المخلصين العُزل، ولذلك يضعهم في مرمى نيرانه الحاقدة، ويبرر جرائمه النكراء بحقهم بأكاذيب واهية واتهامات باطلة لا أساس لها من الصحة.
واليوم، أضاف الاحتلال جريمة شنعاء جديدة إلى سجله الأسود الملطخ بالدماء، باغتيال الصحفي المقدام أنس الشريف، مراسل قناة الجزيرة الفضائية المعروف، الذي جسد نموذجا يحتذى به في المهنية العالية والشجاعة النادرة.
لم يكن أنس يحمل سلاحا سوى كاميرته التي تنقل للعالم جرائم الاحتلال، ولم يكن يقاتل إلا بكلمة الحق التي تفضح زيفهم، لكنه في عرف الاحتلال الفاشي كان يشكل خطرا داهما يجب إسكاته إلى الأبد. لماذا؟ لأنهم يغتالون الصحفيين الأبرياء حين يعجزون عن اغتيال الحقيقة الساطعة التي يحملونها في قلوبهم. اعتقلوه في الماضي ظلما وعدوانا ثم أطلقوا سراحه، ثم تم تهديده بشكل سافر بأنه إن لم يصمت ويكف عن فضح جرائمهم فسيتم اغتياله وتصفيته، وهذا ما حدث بالفعل.
هذا الاغتيال الجبان ليس حادثا فرديا معزولا ولا خطأ عرضيا غير مقصود، بل هو جزء لا يتجزأ من سياسة ممنهجة وراسخة تهدف إلى تكميم الأفواه وإخفاء الحقيقة. وفقا لتقارير موثقة صادرة عن منظمات حقوقية دولية مرموقة، قُتل منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وحتى يومنا هذا المئات من الصحفيين والإعلاميين الشرفاء في غزة، فيما وصفته منظمة "مراسلون بلا حدود" ولجنة حماية الصحفيين، بأنه الاستهداف الأكثر دموية ووحشية للصحفيين في تاريخ النزاعات الحديثة.
هذه الأرقام المروعة والمدمرة تعكس نية واضحة وصريحة: إسكات الشهود على الجريمة النكراء، ومنع توثيقها وتسجيلها، وتخويف وترهيب كل من تسول له نفسه أن ينقل الحقيقة المرة إلى العالم.
إن ما يجري في غزة من فظائع وجرائم حرب يشكل اختبارا صارخا ومهينا للمجتمع الدولي بأسره: هل سيقف العالم متفرجا مكتوف الأيدي صامتا أمام هذه الجريمة المركبة التي تجمع بين قتل المدنيين الأبرياء بدم بارد، وقتل من يحاول أن يوثق مأساتهم وينقلها للعالم؟ هل سيقبل المجتمع الدولي أن تتحول حماية الصحفيين والإعلاميين من مجرد نصوص شكلية في القانون الدولي إلى مجرد شعارات جوفاء خالية من أي مضمون؟
أقولها بوضوح وبصوت عالٍ: هذه الجرائم المروعة يجب ألا تمر مرور الكرام بلا حساب ولا عقاب. اغتيال أنس الشريف وكل زملائه الشهداء الأبرار هو اغتيال لحق كل إنسان على وجه الأرض في أن يعرف الحقيقة، واغتيال للمادة الخام الأساسية التي تُبنى عليها العدالة.
نحن نطالب بتحقيق دولي مستقل ونزيه وشفاف في كل حالة قتل لصحفي أو إعلامي في غزة، ومحاسبة ومعاقبة كل من أمر أو نفذ أو برر هذه الجرائم البشعة. كما نطالب الأمم المتحدة والمؤسسات الإعلامية العالمية المرموقة بأن تتحمل مسؤوليتها كاملة في حماية الصحفيين والإعلاميين، لا بالاكتفاء بإصدار التصريحات الرنانة فقط، بل بالضغط الحقيقي والمساءلة الجادة والحازمة.
قد يعتقد الاحتلال الواهم أنه بقتل الصحفيين والإعلاميين سيغلق ملف الحقيقة إلى الأبد، لكنه مخطئ وواهم. فالحقيقة لا يمكن قتلها أو طمسها، بل تنتشر وتتوسع وتزداد قوة؛ لأن دماء الشهداء من الصحفيين والإعلاميين تكتب فصلا جديدا من رواية شعب عظيم لا يرضى الذل ولا الهوان ولا يرضى أن يُمحى من الذاكرة.
أنس الشريف رحل بجسده، لكن كلماته الخالدة وصوره الحية ستبقى حية في قلوبنا، شاهدا حيا على أن في غزة رجالا ونساء يقفون بشجاعة وإباء في وجه الموت ليقولوا للعالم أجمع: نحن هنا، وهذه هي الحقيقة الساطعة.